
الدعم السريع… حين يتحول السلاح إلى فكر يكره الناس
تحقيق صحفي – إعداد: خالد البنا
—
المقدمة: دماءٌ تُبث على الهواء
منذ اندلاع الحرب السودانية في أبريل 2023، والعالم يشاهد صورًا صادمة من دارفور والخرطوم ومدنٍ أخرى: مدنيون يُقتلون بدمٍ بارد، قرى تُحرق، وجرائم تُوثَّق بعدسات الجناة أنفسهم.
السؤال الذي حيّر المراقبين: لماذا تقتل قوات الدعم السريع المدنيين؟ ولماذا تبثّ جرائمها للعالم وكأنها تتباهى بها؟
هذا التحقيق يحاول كشف خيوط الظاهرة بين الفكر والسلوك والسياسة، بالاستناد إلى شهادات وتقارير حقوقية حديثة.
—
خلفية النزاع: من الجنجويد إلى الدعم السريع
تعود جذور قوات الدعم السريع إلى ميليشيات الجنجويد التي ظهرت في إقليم دارفور مطلع الألفية، بدعم من السلطة المركزية لمواجهة التمرّد المسلح.
لكن بعد أن تمأسست رسميًا عام 2013، تحوّلت إلى قوة شبه نظامية لها مواردها وسلاحها وهيكلها المستقل، يقودها الفريق محمد حمدان دقلو (حميدتي)، الذي صعد بسرعة ليمسك بخيوط السلطة والثروة.
يقول الباحث السوداني عبدالرحيم بلّة في حديث لصحيفة القدس العربي:
> “تحوّلت قوات الدعم السريع من أداة أمنية إلى مشروع سلطة قائم بذاته، يرى في الدولة غنيمة وفي الخصوم هدفًا للتصفية، حتى لو كانوا مدنيين من بيئته نفسها.”
—
لماذا يُقتَل المدنيون؟
1. العنف كأداة حكم
تشير تقارير هيومن رايتس ووتش والعفو الدولية إلى أن الدعم السريع استخدم العنف الممنهج ضد المدنيين لتثبيت السيطرة الميدانية، خاصة في ولايات دارفور والخرطوم.
الهدف، كما تقول التقارير، ليس القتل العشوائي فحسب، بل “خلق بيئة من الرعب تجعل السكان خاضعين دون مقاومة”.
2. فكر التفوق القبلي
يحمل عدد من عناصر الدعم السريع فكرًا يقوم على الولاء القبلي والتفوّق العرقي.
تقول الباحثة ميادة صالح، من مركز الدراسات الإفريقية بجامعة الخرطوم:
> “العنصرية هنا ليست مجرد انحراف، بل عقيدة متوارثة داخل الميليشيا، تُبرّر القتل ضد مجموعات أخرى باعتباره استردادًا للهيبة أو الثأر التاريخي.”
3. انهيار الضبط والمساءلة
غياب المحاسبة سمح بتفاقم الجرائم. فالعناصر تعلم أن لا سلطة تُعاقب، ولا قضاء يحاسب، مما جعل القتل والنهب والاغتصاب جزءًا من «ثقافة الحرب» اليومية.
تقول الأمم المتحدة في تقريرها الصادر في سبتمبر 2024:
> “قوات الدعم السريع ارتكبت جرائم يمكن أن ترقى إلى جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، من خلال استهدافها المتعمد للمدنيين ونهب الممتلكات.”
—
الحاضنة الشعبية… من الولاء إلى الرعب
في بدايات تكوينها، استمدّت الدعم السريع جزءًا من قوتها من بعض القبائل التي رأت فيها وسيلة للحماية أو مصدراً للدخل عبر الانضمام إليها.
لكن مع اتساع رقعة الجرائم، تبدّل المشهد.
يقول الناشط الحقوقي إسماعيل محمد:
> “ما يسمّى بالحاضنة الشعبية اليوم ليس تأييدًا حقيقيًا، بل مزيج من الخوف والمصلحة والاضطرار. الناس تؤيد علنًا كي تبقى على قيد الحياة.”
—
لماذا توثّق جرائمها وتبثّها؟
يُعدّ نشر مقاطع الفيديو لعمليات القتل والنهب أحد أكثر مظاهر الحرب السودانية غرابة.
يرى محللون أن هذه المقاطع ليست مجرد توثيق، بل أداة دعائية هدفها تخويف الخصوم وإظهار السيطرة.
يقول الخبير الإعلامي علي الطاهر:
> “الذهنية الميليشياوية تستعرض القوة عبر العنف المصوّر. المقطع المصوَّر هنا هو خطاب سياسي، يخاطب العدو والمجتمع في الوقت ذاته: انظروا إلينا… نحن الأقوى.”
لكنّ هذه الفيديوهات تحوّلت إلى أدلة إدانة دولية، حيث تعتمد عليها منظمات مثل العفو الدولية ومشروع الأدلّة المفتوحة التابع للأمم المتحدة في توثيق الانتهاكات والتحقق من المواقع والأوقات بدقة رقمية.
—
هل هو فكر أم مرض؟
الواقع يشير إلى أن ما يحرّك الدعم السريع ليس مجرد جشع أو صراع سلطة، بل فكر كراهية متأصل.
فكر يبرّر القتل باسم الانتماء، ويحوّل الإنسان المختلف إلى هدفٍ مشروع.
هو فكر يقتل الوطن من الداخل، لأنّه يقوم على إلغاء الآخر لا التعايش معه.
—
النتائج الإنسانية: وطن ينزف بصمت
وفق تقارير الأمم المتحدة حتى منتصف عام 2025:
أكثر من 8 ملايين نازح داخل وخارج السودان.
آلاف القرى المدمّرة في دارفور.
انهيار شبه تام للنظام الصحي والتعليمي.
ويقول المفوّض السامي لحقوق الإنسان:
> “المأساة في السودان ليست فقط في عدد الضحايا، بل في تحوّل العنف إلى عادة، والمجرم إلى بطل في رواية الكراهية.”
—
الخاتمة: عندما يكره السلاح أصحابه
إنّ ما تفعله قوات الدعم السريع ليس مجرد تجاوزات حرب، بل انعكاس لفكرٍ مريضٍ يكره الحياة نفسها.
حين تتحوّل الجريمة إلى محتوى، والدم إلى دعاية، ندرك أننا أمام انهيارٍ أخلاقي لا يوقفه إلا العدالة والمحاسبة.
فالحروب لا تقتل الأجساد فقط، بل تزرع أفكارًا أكثر فتكًا…
أفكارًا إن لم تُحاسَب، ستجد دائمًا من يحملها باسم القوة والانتقام.




