استغاثةحوادث وقضايا

“الذهب والدم… سيرة رجل من رمال دارفور”

“الذهب والدم… سيرة رجل من رمال دارفور”

تأليف خالد البنا

في أقصى غرب السودان، حيث تتماوج الرمال وتتعانق الجبال مع السراب، وتهبّ الرياح كأنها تروي حكايات الأسلاف، وُلد محمد حمدان دقلو، الذي سيُعرف لاحقاً باسم “حميدتي”.

كان فتى نحيل الجسد، أسمر الملامح، عيونه تحمل دهاء البادية وقلقها. نشأ في قبيلة الرزيقات، قبيلة من البدو الرحّل الذين يتنقلون بخيامهم بين المراعي والمياه.

لم يكن في طفولته ما ينبئ بأن هذا الراعي البسيط سيصبح بعد سنين “رجل السودان القوي”، أو “جلاد دارفور”، أو حتى “نائب رئيس مجلس السيادة”.

كان التعليم بالنسبة له رفاهية لا يقدر عليها، فترك المدرسة مبكراً، والتحق بقوافل الإبل التي كانت تجوب طرق الصحراء بين دارفور وتشاد وليبيا. هناك تعلّم لغة السلاح، ومهارة التفاوض، وفن البقاء في أرضٍ لا ترحم الضعفاء.

في سنوات شبابه الأولى

بدأ حميدتي يرى في الصحراء ما لا يراه الآخرون: ذهبها، وسلاحها، وموقعها الإستراتيجي.

كان يقول لمن حوله:

 “في دارفور، من يملك السلاح يملك القرار… ومن يملك الرجال، يملك الذهب.”

ميلاد الميليشيا

في بدايات الألفية، حين اشتعلت نيران التمرد في دارفور، ظهر حميدتي أولاً كقائدٍ لمجموعة صغيرة من المقاتلين، يقاتلون باسم الحكومة ضد الحركات المتمرّدة. أُطلق عليهم اسم الجنجويد، وهو الاسم الذي سيصبح لاحقًا مرادفًا للخوف في غرب السودان.

كانت مهمتهم المعلنة “حماية القرى”، لكنّهم في الواقع نفّذوا عملياتٍ دامية ضد المدنيين.

في تلك الفترة، وُثقت جرائم حرقٍ واغتصابٍ ونهبٍ، وقيل إن حميدتي كان يشرف بنفسه على بعض الحملات.

لكن الرجل كان بارعًا في إدارة صورته

 أمام الخرطوم هو “القائد المطيع”، وأمام مقاتليه هو “شيخ الصحراء الذي لا يُهزم”.

الطريق إلى القصر

لم يمرّ وقت طويل حتى تحوّل الجنجويد إلى قوة نظامية تُعرف بـ”قوات الدعم السريع”، تحت إمرة حميدتي مباشرة.

وبذكاءٍ فطري، بدأ الرجل يصعد السلم السياسي.

كان عمر البشير بحاجة إلى رجلٍ قويٍّ يحميه من خصومه داخل الجيش، ووجد في حميدتي هذا الحارس الأمين.

وفي المقابل، منح البشير حميدتي صلاحياتٍ واسعة، وسهّل له السيطرة على مناجم الذهب في دارفور، حتى أصبح أحد أغنى رجال السودان.

وصار يُقال في الخرطوم همسًا:

> “في السودان، البشير يحكم… لكن الذهب في يد حميدتي.”

الانقلاب على السيد

وحين جاءت لحظة سقوط البشير عام 2019، انقلبت الأدوار.

وقف حميدتي على شرفة القيادة، يعلن تأييده للثورة، ويبتسم للميدان، بينما كانت دباباته تحاصر القصر الجمهوري.

وفي أيامٍ معدودة، صار الرجل نائب رئيس مجلس السيادة، شريكًا في الحكم لا تابعًا.

لكنه لم ينسَ جذوره ولا سلاحه، فاحتفظ بقواته المستقلة، التي صارت دولة داخل الدولة.

المجزرة التي لا تُنسى

في الثالث من يونيو 2019، ارتكبت قوات الدعم السريع مجزرة أمام القيادة العامة في الخرطوم.

قُتل العشرات من المعتصمين، وأُلقي بجثث بعضهم في النيل.

حاول حميدتي التنصل من المسؤولية، وقال إنها “عناصر مندسة”، لكنّ العالم كلّه كان يعلم من يملك السلاح ومن أصدر الأوامر.

الذهب والسلاح والسلطة

استمرّ الرجل في بناء إمبراطوريته:

شركات تصدّر الذهب إلى دبي، وقوات تشارك في حرب اليمن إلى جانب التحالف، وأموال تتدفّق من الخارج.

صار حميدتي يملك أكثر من المال: صار يملك النفوذ.

حتى داخل الجيش، بدأ بعض الضباط يرونه تهديدًا حقيقيًا، لا مجرد حليفٍ متمرّد.

حرب الإخوة الأعداء

في أبريل 2023، انفجر الصراع بين حميدتي والبرهان.

جيشان في دولة واحدة، كلٌّ منهما يزعم أنه يحمي الوطن.

لكن الوطن كان ينزف.

انهارت الخرطوم، وتحوّلت دارفور إلى رماد.

قُتل الآلاف، وتشرّد الملايين، واغتُصبت النساء، وضاع الأمن.

في كل حيٍّ سوداني، قصة فاجعة.

وفي كل بيت، ذكرى غائب أو شهيد.

الرجل الذي أحرق بيته بيده

اليوم، يقف حميدتي وسط ركام الحرب، لا هو رئيس ولا هو متمرّد.

أحرق الخرطوم التي حلم يومًا أن يحكمها.

هرب الناس من جحيمه، حتى بات اسمه رمزًا للدمار.

لكنه ما زال يُقسم أمام كاميراته أنه “يحارب من أجل الحرية والعدالة”.

والمفارقة الموجعة أن كلّ من في السودان اليوم يبحث عن “الحرية والعدالة”، لكن على أنقاض وطنٍ مات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى