إشكاليَّةُ الأخلاقِ والتديُّنِ في المجتمعِ المصريِّ: أزمةُ أُمَّةٍ

إشكاليَّةُ الأخلاقِ والتديُّنِ في المجتمعِ المصريِّ: أزمةُ أُمَّةٍ
بقلم: كَريم الحُسيني.
—
مِصرُ، المُجتَمَعُ المُتعلِّقُ بِرَبِّه
المُستَمسِكُ بِشَريعَتِه، الَّذي خَرَجَ إلى المَيادينِ في انتخاباتِ عامَ ٢٠١٢ يُنادِي بالدَّولةِ الدِّينيَّةِ، وبأنَّ الإسلامَ هوَ الحَلُّ، المُنادِي بِتَطبيقِ حُكمِ اللهِ في الأرضِ، المُغمَسُ في الدِّينِ كما تُغمَسُ لُقمَةُ العَيشِ في صَحفَةِ الزَّيتِ. إِنَّهُ شَعبٌ تَطغى عَلَيهِ كُلُّ مَظاهِرِ الدِّينِ؛ فَسائِقُ الميكروباصِ يَفتَتِحُ يَومَهُ بِتَشغيلِ القُرآنِ بِصَوتِ الشَّيخِ الدُّوسَرِيِّ أو الشَّيخِ أحمَد العَجَميِّ، وبِالطَّبعِ ـ وبِلا شَكٍّ ـ يَضَعُ مَلصَقًا لِلشَّعراويِّ على زُجاجِ سَيَّارتِه الخَلفِيِّ أو الجانِبِيِّ. وَالعامِلُ البَسيطُ يَخرُجُ مِن بَيتِهِ وهُوَ يَحمِلُ عُدَّتَهُ ويُرَدِّدُ: “بِسمِ اللهِ، تَوَكَّلنا على اللهِ”. وَالمُوظَّفونَ في المَصالِحِ الحُكوميَّةِ مُتَقاَعِسونَ لِأَحَدِ سَبَبَينِ: إِمَّا أَنَّهُم لَم يَتَناوَلوا فُطورَهُم، أو أَنَّهُم يُصَلُّونَ “فَرضَ رَبِّنا”. وَلَيسَت هذِهِ المَشاهِدُ بِغَريبَةٍ عَنِ الوَعيِ أو الذِّهنِ المِصرِيِّ. وَلَيسَ أَكثَرَ في شَوارِعِنا مِنَ المَساجِدِ الكَثيرةِ الكَبيرةِ الَّتي يَصدَحُ صَوتُ المُؤَذِّنينَ مِن مَنابِرِها، وَلا مِنَ القُرَّاءِ في بُيوتِنا وَأَشغالِنا، وَلا مِنَ الجُمَلِ ذاتِ الطّابِعِ الدِّينيِّ الصِّرفِ في تَعامُلاتِنا الاجتِماعِيَّةِ.
“الشَّعبُ المِصرِيُّ مُتَدَيِّنٌ بِطَبعِه
جُملَةٌ اعتَدنا سَماعَها كَثيرًا وَتَتَرَدَّدُ في الأَصداءِ ابتِداءً مِنَ الأَروِقَةِ الثَّقافِيَّةِ وَحَتَّى المَقاهِي الشَّعبِيَّةِ. جُملَةٌ حِينَ حاوَلتُ تَعقُّبَ بَداياتِ استِخدامِها لَم أَصِلْ إلى يَقِينٍ، ولَكِنَّها جُملَةٌ تَرَدَّدَت عِندَ جَمال حِمدان في دِراسَتِه “شَخْصيَة مِصْر” وَغَيرِهِ مِمَّن حاوَلوا دِراسَةَ بُنيَةِ المُجتَمَعِ المِصرِيِّ وَطَبيعَتِه. وَمَعنى ذَلِكَ أَنَّ هَذا الشَّعبَ يُحِبُّ دِينَهُ وَيَغارُ عَلَيهِ وَيَستَمسِكُ بِه. فَيَا تُرَى، لِمَ نُعانِي ما نُعانِيه؟ لِمَ الفَسادُ وَالكَذِبُ وَالرَّشوَةُ وَالمَحسوبيَّةُ، وَانعِدامُ نَظافَةِ الشَّوارِعِ بِالقُمامَةِ وَالأَلسُنِ بِالشَّتائِمِ؟
إِن كانَ هَذا الشَّعبُ حَقًّا مُحِبًّا لِدِينِهِ مُستَمسِكًا بِه، فَمِن أَينَ تَأتِينا كُلُّ هذِهِ المُشاكِلِ الاجتِماعِيَّةِ الخَطيرَةِ؟
إِنَّنا إِذا وَضَعنا حُجَّةَ هَؤلاءِ بِقِياسٍ أَرسَطِيٍّ، لَكانَت كَالتَّالِي:
١- الدِّينُ يَأمُرُ بِكُلِّ القِيَمِ الفَضِيلَةِ.
٢- الشَّعبُ المِصرِيُّ مُتمَسِّكٌ بِالدِّينِ.
٣- إِذَن الشَّعبُ المِصرِيُّ عِندَهُ كُلُّ قِيَمِ الفَضِيلَةِ.
هَذا القِياسُ سَليمٌ مَنطِقِيًّا
لَكِنَّهُ خَاطِئٌ واقِعِيًّا، لِأَنَّهُ يَفتَرِضُ أَنَّ الشَّعبَ المِصرِيَّ مُتَدَيِّنٌ، وَأَنَّهُ مُتَدَيِّنٌ تَدَيُّنًا حَقيقِيًّا.
وَالسُّؤالُ هُنا نُكَرِّرُهُ: إِن كانَ المِصرِيُّونَ كَذَلِكَ، فَمِن أَينَ تَأتِينا كُلُّ هذِهِ المُشاكِلِ الاجتِماعِيَّةِ؟
بِمَنطِقِ الاحتمالاتِ الرِّياضيِّ: لا يُوجَدُ إِلَّا احتِمالانِ؛ إِمَّا أَن تَكونَ المُشكِلَةُ في تَطبيقِ الدِّينِ، أَو في الدِّينِ نَفسِهِ. وَالاحتِمالُ الَّذي سَوفَ يَلجَأُ إِلَيهِ أَغلبُ النّاسِ هُوَ أَنَّ المُشكِلَةَ في التَّطبيقِ الخاطِئِ لِلدِّينِ.
وَهُنا نَقولُ إِنَّ هَذا الاحتِمالَ يُفسِدُ مَقولَةَ “الشَّعبُ المِصرِيُّ مُتَدَيِّنٌ بِطَبعِهِ”. فَأَينَ التَّدَيُّنُ إِن كانَ كَثيرونَ مِن هَؤلاءِ الَّذينَ نَصِفُهُم بِالمُتَدَيِّنينَ لا يَنتَهونَ عَنِ المُنكَراتِ؟ كَيفَ يُمكِنُ القَولُ إِنَّ شَعبًا مِنَ الشُّعوبِ مُتَدَيِّنٌ بِطَبعِهِ، بَينَما صَلاتُهُ وَنُسُكُهُ وَصَومُهُ لا تَنهَاهُ عَنِ الفَحشاءِ وَالمُنكَرِ؟ وَالصَّلاةُ بِنَصِّ الآيَةِ: “إِنَّ الصَّلاةَ تَنهى عَنِ الفَحشاءِ وَالمُنكَرِ” (العَنكَبوت: ٤٥).
إِنَّ الفَسادَ المُستَشري وَالمُتَفَشِّي في المُجتَمَعِ
رَغمَ وَعيِ النّاسِ بِالتَّعاليمِ الدِّينيَّةِ، هُوَ أَكبَرُ دَليلٍ عَلى أَنَّ القَضيَّةَ لَيسَت قَضيَّةَ “كَمٍّ”، بَل “ما” وَ”كَيْفَ”. إِنَّ الشَّيخَ المُلتَحِي، وَالمُريدَ السَّلَفِيَّ، وَصاحِبَ الجُلبابِ القَصيرِ الَّذي يَتَقاضَى الرَّشوَةَ، وَيَسُبُّ غَيرَهُ في نَهارِ رَمَضانَ، وَتَفحَصُ عَيْناهُ النِّساءَ ذَهابًا وَإِيابًا، لَيسَ جاهِلًا وَلا غَيرَ واعٍ بِأَنَّ ما يَفعَلُهُ يُخالِفُ مَشيئَةَ اللهِ، وَأَنَّهُ “عَيْبٌ” وَ”حَرامٌ”. لَيسَ غائِبًا عَنهُ هذِهِ المَفاهيمُ، بَل يَعرِفُها وَلَكِنَّهُ لا يُطَبِّقُها، وَذَلِكَ لِأَنَّ هذِهِ المَفاهيمَ وَهذِهِ القِيَمَ لَم تَنفُذْ إِلى قَرارِ نَفسِهِ، وَكَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَجَرَّعَ لُقاحَاتٍ دِينيَّةً مُضادَّةً لِهذِهِ القِيَمِ
ـ أَو يُوجِدُ لِنَفسِهِ ـ ذَريعَةً لِإِطالَةِ النَّظَرِ وَالتَّحدِيقِ، وَرُبَّما التَّهَجُّمِ وَالتَّعَدِّي عَلى امرَأَةٍ تَسيرُ في الشَّارِعِ لِمُجرَّدِ أَنَّها تَرتَدي مَلبَسًا لا يُناسِبُهُ وَلا ثَقافَتَهُ. كَذَلِكَ يَتَقاضى الرَّشوَةَ بِحُجَّةِ أَنَّ هَذا حَقُّهُ، رَغمَ أَنَّهُ مَأمورٌ بِالكَسبِ الحَلالِ وَعَدمِ تَقاضي أَموالٍ نَظيرَ تَقديمِ امتِيازاتٍ أَو خَدَماتٍ لِأَيِّ شَخصٍ، وَهَكَذا دُوالَيْكَ.
وَلِمَ كُلُّ هَذا؟ لِأَنَّهُ تَعَلَّمَ أَنَّ خَتمَ القُرآنِ في رَمَضانَ، وَالدُّعاءَ في لَيلَةِ القَدرِ، وَالعُمرَةَ، تُغفَرُ بِها كُلُّ الذُّنوبِ. فَلا بَأسَ ـ في نَظرِهِ ـ مِن تَحرُّشٍ لَفظِيٍّ أَو بَصَرِيٍّ يَتبعُهُ تَوبَةٌ تُغفِرُ الذُّنوبَ، وَرُبَّما أَتَى بِتِلكَ الأَفعالِ لِأَنَّ مَظهَرَهُ لا يُوحي بِأَنَّهُ مُتَحرِّشٌ أَو مُرتَشٍ، فَيَختَبِئُ وَراءَ هَذا السِّتارِ لِيُمارِسَ كُلَّ الفَواحِشِ.
إِنَّ المُؤَسَّساتِ التَّربَوِيَّةَ وَالدِّينيَّةَ حينَ تُعالِجُ قَضايا أَخلاقِيَّةً في المُجتَمَعِ، تُعالِجُها مِن مَنظورِ الدِّينِ فَقَط. فَيَقولونَ: إِنَّ السَّبَبَ “عَدَمُ فَهمِ الدِّينِ”، أَو “عَدَمُ الوَعيِ بِالدِّينِ”. فَتَأتي وَزارَةُ التَّربِيَةِ وَالتَّعليمِ لِتَجعَلَ الدِّينَ مادَّةً أَساسِيَّةً النَّجاحُ فيها (٧٠ مِن ١٠٠)، بَينَما الفَلسَفَةُ (أُمُّ العُلومِ) وَالمَوادُّ الفَلسَفِيَّةُ الأُخرى مادَّةٌ لا تُضافُ لِلمَجموعِ وَلا تُعطى نَفسَ الأَهمِّيَّةِ، لِكَي تُغازِلَ الوِزارَةُ العاطِفَةَ الدِّينيَّةَ لَدى النّاسِ. وَلا يَكونُ مِن وَزارَةِ الأَوقافِ إِلّا أَن تُقيمَ «أَكشاكًا» في الشَّوارِعِ لِلفُتيا، كَأَنَّ الحَلالَ وَالحَرامَ غَيرُ مَعرُوفٍ بِالفِطرَةِ الَّتي زَرَعَها اللهُ في داخِلِ الإِنسانِ. فَالحَلُّ ـ عِندَهُم ـ هُوَ (زِيادَةُ جُرعَةِ الدِّينِ)، وَهُوَ أَمرٌ يَنُمُّ عَن جَهلٍ.
كُلُّ هَذِهِ المَفاهيمِ وَالحُلولِ خاطِئَةٌ
فَلَيسَ الحَلُّ في زِيادَةِ جُرعَةِ الدِّينِ، بَل في تَغييرِ نَوعِها وَمُحتَواها. وَالأَخلاقُ الَّتي يَجِبُ أَن تُزرَعَ لا يَنبَغِي أَن تُبنَى عَلى أَساسٍ دِينِيٍّ (فَقَط)، لِأَنَّهُ لَيسَ كُلُّ مَن في المُجتَمَعِ مُتَدَيِّنًا. فَإِن بُنِيَتِ الأَخلاقُ فَقَط عَلى الدِّينِ، فَمَعنى ذَلِكَ أَنَّهُ إِذا تَرَكَ الدِّينَ تَركَ مَعَهُ أَخلاقَهُ. لَكِنَّ الإِنسانَ، بِحُكمِ كَونِهِ فَردًا في مُجتَمَعٍ، عَلَيهِ واجِباتٌ تُلزِمُهُ بِاحترامِ الآخَرينَ وَعَدمِ انتِهاكِ حُرِّيَّاتِهِم أَوِ الاعتِداءِ عَلَيهِم بِلَفظٍ أَو فِعلٍ. هَذا واجِبٌ اِجتِماعِيٌّ تُنَظِّمُهُ القَوانينُ وَتَتَعارَفُ عَلَيهِ المُجتَمَعاتُ حَتّى قَبلَ وُجودِ القَوانينِ.
إِنَّ الأَخلاقَ الَّتي تُمارَسُ لِأَجلِ الفَوزِ بِنَعيمِ الجَنَّةِ وَالخَلاصِ مِن عَذاب النَّارِ هِيَ مَحضُ أَخلاقٍ وَهمِيَّةٍ، لِأَنَّها نَابِعٌة عَنِ الخَوفِ، وَلَيسَ عَن فَضِيلَةٍ حَقِيقِيَّةٍ تَرَسَّخَت فِي النَّفسِ مِن دَاخِلٍ.
وَإِذَا كُنَّا نُرِيدُ أَنْ نُرَسِّخَ لِأَخلاقٍ دِينِيَّةٍ حَمِيدَةٍ، يَجِبُ عَلَينَا أَنْ نُؤَصِّلَ لِقِيَمٍ اِجتِمَاعِيَّةٍ وَمَبَادِئَ أَخلاقِيَّةٍ هَامَّةٍ، مِن خِلَالِ النُّصُوصِ الدِّينِيَّةِ نَفسِهَا: تَقَبُّلُ الآخَرِ، وَاحْتِرَامُ الرَّأيِ المُختَلِفِ، وَاحْتِرَامُ حُرِّيَّةِ النَّاسِ فِي مَلبَسِهِم وَمَظهَرِهِم وَدِينِهِم وَانتمَائِهِمُ السِّيَاسِيِّ وَالدِّينِيِّ وَغَيرِ ذَلِكَ. لَا أَنْ نَزِيدَ جُرعَةَ الدِّينِ بِالمُحتَوَى القَدِيمِ الَّذِي يُشَجِّعُ عَلَى التَّطَرُّفِ وَيُقصِي الآخَرَ وَيُقَسِّمُ العَالَمَ إِلَى مُؤمِنٍ وَكَافِرٍ، وَمُسلِمٍ وَغَيرِ مُسلِمٍ، وَيُشَجِّعُ عَلَى استِبَاحَةِ مَسَاحَاتِ الآخَرِينَ الخَاصَّةِ بِدَعوَى الأَفضَلِيَّةِ وَامتِلَاكِ الحَقِيقَةِ المُطلَقَةِ.
لِذَلِكَ كَانَتِ الدَّعوَاتُ الدَّائِمَةُ وَالمُطَالَبَاتُ المُستَمِرَّةُ مِن مُؤَسَّسَةِ الرِّئَاسَةِ
المُتَمَثِّلَةِ فِي الرَّئِيسِ السِّيسِي، الَّتِي تُنَادِي لَيلًا نَهَارًا بِضَرُورَةِ تَجديدِ الخِطَابِ الدِّينِيِّ القَدِيمِ وَاستِبدَالِهِ بِخِطَابٍ عَصرِيٍّ يَحُثُّ عَلَى العَمَلِ وَالاجتِهَادِ، وَاحْتِرَامِ حُقُوقِ المُوَاطَنَةِ، وَتَقَبُّلِ الآخَرِ، وَزَرعِ القِيَمِ الاجتِمَاعِيَّةِ السَّلِيمَةِ، وَالمَبَادِئِ الأَخلَاقِيَّةِ الحَقَّةِ. وَقَد أَعادَت وَزَارَةُ الأَوقَافِ وَدَارُ الإِفتَاءِ ضَبْطَ مَسارِها وسَعت بِخُطُوَاتٍ حَثِيثَةٍ وَاجتِهَادَاتٍ




