للأنف.. وظائف أخرى!

للأنف.. وظائف أخرى!
على مر العصور تجاوزت دلالة الأنف المعنى الحسي، كعضو بارز بالوجه، ومسئول عن عملية التنفس؛ فارتبط بالعديد من المفاهيم والرموز.
صار عنوانا للذل والانكسار؛ فحرص معظم الملوك والقادة على تحطيم أنوف تماثيل أعدائهم منذ قديم الزمان.
وقد حفلت اللغة وقواميس التراث الشعبي أيضا بالكثير من التعبيرات والتشبيهات المجازية التي تحمل نفس المعنى مثل: “مرّغ أنفه في التراب”، “رغم أنفه”، كسر مناخيره”.. وكلها تعبيرات تدل على التحدي، والقهر.
كما صار الأنف مفتاحا من مفاتيح السر التي تساعد على معرفة الكثير من أخلاقيات وسلوكيات الشخصية المحكومة بنوع وشكل الأنف، الذي ينتفخ ويتضخم ويضطرب منخاراه في حالة الكذب، وربما قد يطول كما صوّرت ذلك القصة التربوية “بينوكيو”* وهي قصة دمية خشبية كان أنفها يتمدد كلما همت بالكذب، وغايتها تكريه الأطفال في الكذب وجعلهم لا يقدمون عليه.
كذلك قد يحدد الأنف طبيعة العلاقة بين شخصية وأخرى، وطريقة الترحيب، كأن يستخدم كبديل للمصافحة اليدوية والمعانقة كما يحدث ببعض البلاد!.
هذا بالطبع غير مستوى درجة الثقافة والنظافة التي يعكسها تعاملنا معه في حالة من حالات العطس والتمخط، حيث نكون وقتها في موضع حرص وحذر غالبا ما ينتهيان بنقد غير معلن من الآخرين!.
أيضا أصبح للأنف خصوصية مرتبطة بسر الجمال وجعل الإنسان مقبولا لدي الكثير من الناس؛ فلجأ أصحاب الأنوف الكبيرة لتغييرها بواسطة عمليات التجميل!.
كما أن هناك تعبيرات وتشبيهات تدل على العزة، والتكبر مثل: “شامخ الأنف”، “مناخيره في السماء”، “يتحدث من طرف أنفه”.. وأخرى تدل على التطفل والفضول مثل: “حشر أنفه، أو دس أنفه” أي تدخل فيما لا يعنيه من شئون الآخرين!…
وقد اختص بعض الشعراء الأنف بشعرهم فقالوا:
لك أنف يا ابن حرب
أنفت منه الأنوف
أنت في القدس تصلي
وهو في البيت يطوف**
والشاعر الفرنسي “إدموند روستان” جعل سر مأساة بطل رائعته الأدبية “سيرانو دي بيرا جيراك” ضخامة الأنف الذي خسر البطل بسببه محبوبته!…
والآن نلاحظ وجود بعض الكلمات الوصفية والتشبيهية، حديثة العهد ببعض القواميس الشعبية بكثير من المناطق العربية، تحتوي على عبارات من نوع: “شخص أبخر” وهو وصف يعادل وصف ” شخص لا يشم” والتعبيران لا يقصدان المعنى الحرفي؛ فيكون الشخص الأول نتن رائحة الفم، والآخر ليس لديه قدرة على الشم من مرض ونحوه، بل المقصود أن الشخص الموصوف لا يستطيع التمييز بين أتفه الأشياء، ويقع بأخطاء نتيجة لغباء مفرط.
ولذا فوصف الإنسان مجازيا بأنه “أبخر” أو “لا يشم” أشد قسوة من وصفه بأنه قليل الذكاء، أو قليل الفهم؛ فهنا لا يوجد مجال لأي أمل في الشفاء، أو التغير!…
وقد رأيت الكثيرين ممن وُصفوا بذلك الوصف في مواقف حياتية عادية، وأخرى فكرية.. وسوف أعرض على حضرتك عزيزي القارئ بعض المواقف والتصرفات الحياتية، ولك حرية التأييد أو الرفض.. فأنت حر إن كنت سترانا “بُخر”، أو قليلي الفهم، وأنت حر أيضا إن كنت سترى تلك المواقف والتصرفات مجرد أمور عابرة عادية:
ــ صلاة الجنازة:
في ذلك الصباح الرمضاني الباكر استيقظنا على خبر مؤلم!… فقد توفي شقيق أحد أصدقائنا ــ رحمه الله ــ إثر حادث سيارة!…
تجمع الأصدقاء، والمعارف، وغادرنا قريتنا ــ أبومناع بحري ــ التابعة لمحافظة قنا متوجهين للمستشفى العام بمحافظة أسيوط ــ مكان الحادث ــ
مر الوقت بطيئا كالعادة بمثل تلك الظروف القاسية.. ووسط البكاء، والحزن والإجراءات الرسمية التي التهمت النهار بأكمله لم يفكر أحد منا في تعب الصيام، أو حرارة الشمس، والعطش…
وشاء الله تعالى أن ندرك صلاة العشاء بمسجد القرية الكبير، وكنا نتمنى في أنفسنا أن يراعي إمام المسجد الظرف؛ فلا يطيل وخاصة في صلاة “التراويح”؛ كيما نصلي صلاة الجنازة، وندفن فقيدنا ــ رحمه الله وأسكنه فسيح جناته ــ ثم نتفرغ لأهله، أصحاب المصيبة.. المنهكين.. العطشى نهارا كاملا، فنجبرهم ونحايلهم بالوعظ والأقسام على أن يتناولوا شيئا من الطعام والشراب!…
لكن الشيخ أطال حتى أدركنا أنه لا يشاركنا مصابنا.. أطال حتى قدم إلى المسجد لصلاة الجنازة كثيرون كانوا يصلون بمساجد أخرى.. أطال حتى تساءل الناس غاضبين وأنا من بينهم: “هل هذا من الدين!!”.
العجيب في الأمر أن هناك من ادعى أن لظهر الأرض ساعة ولباطنها ساعة.. فالقدر هو المسئول!!
ــ كولدير مياه:
كثيرا ما تتشابه طقوسنا وعاداتنا في الأفراح والأحزان؛ فيحرص كل واحد منا على أن يظهر بشكل أفضل من الآخر، حتى لو استدان أو اقترض ليصرف عشرات الألوف.. ولذا نجد الاحتفال بالعرس من بدايته، أي منذ أول يوم خطوبة، أو قراءة الفاتحة، قائما على الإسراف والبذخ ــ حتى أن الأمر ليبدو كما لو كان سباقا محموما.. يذبح فيه بعضنا البعض، وانتهى بأن جعل الزواج كحج بيت الله.. لمن استطاع إليه
نتعظ من آخرين أنهكهم اللهاث من أجل البحث عن مخرج من قبضة الدَّين التي غالبا ما تزج بالكثيرين داخل السجون، او تنفك عنهم لكونهم من الغارمين! ــ مرورا بشراء أشياء ليس لها قيمة فعلية ولا تستخدم غالبا حتى يشيخ العروسان والأمثلة على ذلك كثيرة ومتنوعة، وانتهاء بليالي العرس التي لابد أن تكون ثلاث ليال صاخبة وحافلة بأعداد مهولة من مكبرات الصوت.. أما في حالة الحزن على ميت فإن مراسم العزاء بسرادقاتها وساحاتها، وإن انخفضت نوعا ما أعداد صناديق مكبرات الصوت بداخلها، فلا يخلو الأمر أيضا من بعض المظاهر الزائفة والتي تعكس إسرافا وتبذيرا وتطلعا للظهور بمظهر منافس للآخرين؛ فلها نفس عدد الليالي الثلاث إلا من اضطره توقيت الدفن لغير ذلك، ولها نفس المصابيح الكهربية، وإسراف الطعام والشراب!…
ثم تأتي طريقة اهتمامنا بعمل الخير كصدقة جارية، ولا يكون الأمر إلا بشراء مبرد مياه كهربائي “كولدير” يتم وضعه بمكان لا يحتاج إلى مصدر مياه شرب من الأساس؛ لكونه بمنطقة عامرة، هذا غير تعرض الكثير من الأطفال للموت صعقا بالكهرباء، دون أن يفكر أحد في التخلص منه لأنه تعطل ــ ويحدث هذا في الغالب بعد فترة قصيرة من استعماله! ــ أو فصل التيار الكهربي عنه!
ويحدث ذلك رغم أنه يوجد حولنا الكثيرون من ذوي الحاجة، وأماكن بحاجة للمساعدة وتقديم يد العون كالمستشفيات والمشافي الخيرية التي تحتاج إلى الكثير من الأجهزة والمستلزمات الطبية وكالمدارس التي تمتلئ بالأطفال الفقراء واليتامى!…
ــ مكبرات الصوت:
ظاهرة غريبة سيطرت على الجميع، وهي الإفراط في الصخب والضجيج، وليت الأمر اقتصر على الأفراح والأحزان.. بل أن مكبرات الصوت الآن صارت تملأ المساجد دون أن يلتفت أحد لمساحة المسجد أو وضعه بمنطقة بها العديد من المساجد المتجاورة!
والآن عزيزي القارئ..
هل ترى أن تلك التناقضات السلوكية وحالة التجمد الفكري المتواصل التي نعيشها.. مجرد أمر عادي..
أم ترانا قليلي الفهم..
أم أننا.. لا نشم!؟
على كل حال.. ربما يكون هنالك أمل في أن نملك ــ ذات يوم ــ أنوفا غير تلك الأنوف المسئولة عن التنفس، والإفرازات المخاطية فقط!
عاطف عطيت الله
عضو اتحاد كتاب مصر
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*كتب هذه القصة الروائي الإيطالي كارلو كولودي سنة 1880م.
وجدير بالذكر أن هناك زعم بأن العلماء في “مؤسسة معالجة وأبحاث الشم والتذوق
Taste Treatment & Research Foundation” The Smell &”
وجدوا أن الإنسان عندما يكذب… تُفرز مواد كيميائية تُعرف باسم “كاتكولاماينو” Catecholamines تسبب تضخم أنسجة الأنف…
**ابن الرومي.




