آداب وفنونمنوعات

حين تلتقي الأرض بالسماء

حين تلتقي الأرض بالسماء 

إعداد خالد البنا 

التحقيق الصحفي: الموالد في مصر… حين تلتقي الأرض بالسماء

في قلب الأزقة القديمة، وتحت الأضواء الملونة، يتوافد الناس من كل صوب وحدب إلى ساحة المولد، لا يفرّق بينهم مذهب ولا طبقة. الموالد في مصر ليست مجرد احتفالات دينية، بل هي تراث شعبي ضارب في جذور التاريخ، يحمل في طياته مزيجًا من الدين والفن والتجارة والوجدان الجمعي للمصريين.

 المولد… من المعجزة إلى المهرجان

كلمة مولد تعني في الأصل “الولادة”، وتعود بداياتها إلى الاحتفال بمولد النبي محمد ﷺ، ثم انتشرت فكرة الاحتفال بولادة الأولياء والقديسين الذين تركوا أثرًا روحانيًا في قلوب الناس.

ومع مرور القرون، تحولت هذه المناسبات إلى طقس شعبي كبير، يجمع بين العبادة والفرجة، وبين الذكر والمرح، فترى حلقات الذكر إلى جانب المراجيح، وباعة الحلوى بجوار زوايا الصوفية.

 كم عدد الموالد في مصر؟

بحسب تقديرات باحثين ميدانيين في التراث الشعبي، يبلغ عدد الموالد في مصر نحو 2850 مولدًا تمتد على مدار العام، تتوزع بين القرى والمدن في جميع المحافظات.

منها ما هو ضخم يحضره الملايين مثل:

مولد السيد البدوي في طنطا

مولد الحسين في القاهرة

مولد السيدة زينب في القاهرة

مولد أبو الحجاج الأقصري في الأقصر

مولد العارف بالله إبراهيم الدسوقي في دسوق

مولد المرسي أبو العباس في الإسكندرية

وهناك مئات الموالد الصغيرة لأولياء محليين معروفين في القرى والنجوع، يحتفل بهم الأهالي بالذكر والإنشاد وتوزيع الطعام.

 الموالد الكبرى والصغرى

يُقدّر أن هناك 60 مولدًا رئيسيًا تُقام على مستوى الجمهورية يحضرها مئات الآلاف، بينما تُشكّل بقية الموالد فعاليات محلية محدودة النطاق، تُقام في المساجد والزوايا الريفية.

ويتوزع الموسم الصوفي على مدار العام بحيث لا يخلو شهر من مولد كبير أو صغير، مما جعل بعض الباحثين يصفون مصر بأنها “البلد الذي لا يخلو من مولد”.

 الأبعاد الاقتصادية والاجتماعية

لا تقتصر الموالد على الجانب الروحاني، بل تمثل اقتصادًا موسميًا ضخمًا.

يعمل خلالها الآلاف من الباعة المتجولين، وأصحاب الألعاب، والمطاعم المؤقتة، وباعة الحلوى والأعلام، حتى صارت الموالد سوقًا مفتوحة للاسترزاق الشعبي.

كما أنها وسيلة للتنفيس الاجتماعي عن ضغوط الحياة، فيجتمع الناس من كل الفئات والطبقات، يضحكون، يرقصون، ويشاركون في ذكر الله على طريقتهم.

✳️ الموالد والطرق الصوفية

تشرف الطرق الصوفية على أكثر من 70% من الموالد المصرية، عبر تنظيم حلقات الذكر والمسيرات والإنشاد، وتستمد تلك الطرق وجودها من الولاء للأولياء الكبار مثل البدوي والدسوقي والرفاعي والشاذلي.

وتعتبر مشيخة الطرق الصوفية بالقاهرة الجهة الرسمية التي تنسّق مع وزارة الأوقاف لإقامة هذه الاحتفالات تحت رقابة أمنية وتنظيمية دقيقة.

 الموالد بين النقد والتجديد

رغم الشعبية الواسعة، تواجه الموالد انتقادات من بعض التيارات الدينية التي تراها بدعة أو خلطًا بين الدين والعادات الشعبية.

لكن آخرين يرون فيها تراثًا روحيًا وإنسانيًا لا يمكن الاستغناء عنه، لأنها تعبّر عن وجه مصر المتسامح الذي يجمع بين الإيمان والفرح، بين العقل والقلب.

 خلاصة التحقيق

تُعد الموالد المصرية ظاهرة فريدة في العالم الإسلامي؛ إذ تختلط فيها الصلاة بالفرجة، والإنشاد بالدعاء، والعشق الإلهي بالاحتفال الشعبي.

وفي بلد يضم أكثر من 2850 مولدًا تمتد من الإسكندرية إلى أسوان، تبدو مصر وكأنها تحتفل بالحياة كل يوم، في مشهد لا يمكن فهمه إلا من داخل قلبها الصوفي، الذي لا يزال يخفق باسم أوليائها وناسها.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى