منوعات

الموالد في مصر

الموالد في مصر 

إعداد خالد البنا 

تحقيق صحفي تاريخي: الموالد في مصر.. بين البركة والتجارة والمقاومة الشعبية

إعداد: خالد البنا

 الجذور التاريخية للموالد

الاحتفال بالموالد في مصر ليس ظاهرة دينية فحسب، بل هو تراث مصري ضارب في القدم، يمتد إلى عصور الفراعنة الذين كانوا يقيمون مواسم وأعيادًا دينية تُكرّم الآلهة، تتخللها الزينات، والمواكب، والموسيقى، والطعام.

ومع دخول المسيحية، ثم الإسلام، تحوّل الطابع الوثني إلى طابع ديني شعبي؛ فصار المصريون يحتفلون بمواليد القديسين، ثم الأولياء الصالحين، على نفس النسق القديم: “زيارة، ونذر، وفرح جماعي”.

 المولد كطقس صوفي وشعبي

بدأت الموالد الإسلامية في مصر مع الطولونيين والفاطميين.

فالفاطميون استخدموا الموالد وسيلةً لترسيخ وجودهم السياسي والمذهبي، فأقاموا مواسم ضخمة للاحتفال بمولد النبي ﷺ، والسيدة فاطمة، والإمام علي، والحسين، والسيدة زينب.

ومع مرور الزمن، تحوّلت الموالد من أداة سياسية إلى طقس روحي صوفي، يحتفل فيه الناس بالأولياء باعتبارهم وسطاء للرحمة والبركة، وتُتلى فيه الأذكار والمدائح النبوية، وتُقام حلقات الذكر والسماع، وترتفع الرايات الخضراء.

> يقول الباحث في التراث الشعبي الدكتور عبد الحميد يونس:

“المولد في مصر هو ملتقى الفقير بالغني، والريف بالمدينة، والروح بالبدن.”

 المولد كمهرجان شعبي

من “مولد السيد البدوي” في طنطا، إلى “مولد السيدة زينب” في القاهرة، و“مولد الدسوقي” في كفر الشيخ، و“أبو الحسن الشاذلي” في البحر الأحمر — تتحول المدن إلى كرنفال شعبي هائل.

الخيام الصوفية تتجاور مع الألعاب والمراجيح، وباعة الحمص والحلاوة والمسابح، والعرافين والمنشدين.

إنه موسم للحياة، يلتقي فيه الدين بالفرجة، والروح بالفرح.

 الموالد كاقتصاد موسمي

تشير دراسات وزارة الثقافة إلى أن بعض الموالد الكبرى – كمولد السيد البدوي – يستقبل أكثر من مليوني زائر سنويًا، ويُحرّك تجارة تقدر بعشرات الملايين من الجنيهات، من المواصلات والإقامة إلى الأطعمة والهدايا.

كما يعتمد كثير من الباعة الجائلين على الموالد كمصدر رزق رئيسي طوال العام.

وهكذا، أصبح المولد اقتصادًا شعبيًا متجذرًا، يخلق دورة معيشية كاملة بين الناس.

 بين التقديس والانتقاد

رغم شعبيتها الواسعة، واجهت الموالد انتقادات من بعض التيارات الدينية التي رأت فيها بدعًا وخرافات.

لكن أنصارها يرونها تعبيرًا عن حب الناس لأوليائهم، وعن طبيعة التدين الشعبي المصري الذي يجمع بين البساطة والعاطفة.

وفي فترات القمع السياسي، تحولت الموالد إلى مساحات حرّة للتعبير الشعبي، وهتفت فيها الجماهير ضد الاحتلال والظلم، كما حدث في مولد الحسين أثناء الاحتلال البريطاني.

 المولد في ضمير المصريين

المولد ليس مجرد مناسبة دينية، بل هو ذاكرة جماعية للمصريين.

فيه يعيشون لحظة التحرر من ضغوط الحياة، ويلتقون حول رمز للبركة والعدل والرحمة.

ولهذا، لا تزال الموالد – رغم التحديث والعولمة – تجد طريقها إلى قلب المصري، من الريف إلى العاصمة، كأنها صوت التاريخ وهو يغني في الحارة.

الحديث عن الموالد هو حديث عن مصر نفسها:

مصر التي تعرف كيف تخلط بين الدين والفرح، بين التراث والواقع، بين الجذب الصوفي والرقص الشعبي.

هي ظاهرة تُدهش كل من يراها، لأنها ببساطة تُجسّد روح المصري — الذي يبحث عن البركة وسط زحمة الحياة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى